هل تكون دبلوماسيتنا في مستوى الدعوة التي أطلقها اليوم الدبلوماسي الإسباني المرموق، ميغيل أنخيل موراتينوس، خلال حفل افتتاح مهرجان مدائن التراث بمدينة وادان؟
الرجل الذي حل ضيفا رسميا على المهرجان، حرص على أن يتجاوز حضوره البعد الرسمي الرمزي، فدعا إلى إطلاق مبادرة دولية لإحياء ثقافة القوافل، التي كانت تعبر هذه الصحراء حاملة الأفكار والسلع، فتنشر أسباب الحياة وتعزز مظاهرها، وتتفاعل مع الفضاء المحيط بها من كل الجهات.
ليست هذه الدعوة اعتباطية ولا عابرة، حتى ولو أطلقها الرجل ارتجالا - كما يظهر على الأقل - فهي بالغة الأهمية من زوايا عديدة.
أول هذه الزوايا أن الرجل، الذي أطلقها جاء إلى وادان، وهو "يعتمر ثلاث قبعات"، كما يقال في التعبير الدبلوماسي، فهو علاوة على أنه ممثل عن الأمين العام للأمم المتحدة البرتغالي أنطونيو غوتيريش، الذي يشترك معه الثقافة الإيبرية - المتوسطية، فهو كذلك يمثل التحالف الدولي لتحالف الحضارات الذي يرأسه شخصيا.
أما قبعته الثالثة، فهي أنه ينسق جهود المنظمة الدولية بخصوص مكافحة ظاهرة "الإسلامفوبيا".
والرجل قبل هذا وذاك، دبلوماسي إسباني مرموق وحصيف، قاد دبلوماسية بلاده لسنوات، وهو مطلع على جانب كبير من أوجه التعاون بين مدريد ونواكشوط، خاصة ملف حماية المدن التاريخية الموريتانية.
وقد أتيح له، أن يزور عدة مدن تاريخية موريتانية - كما قال اليوم وهو يطلق الدعوة – ويعرف كثيرا من تاريخ الشراكة بين البلدين بخصوص هذه المدن، وجهود حماية تراثها وتاريخها، وبالتالي فهو يتحدث من موقع العارف.
وعلاوة على ما يتعلق بتاريخ وأدوار هذا الدبلوماسي في الحاضر ذات الصلة بقضايا الثقافة والتاريخ والحضارة، وطبيعة العلاقات التاريخية بين موريتانيا وبلاده، فلدعوته عوامل مساعدة أخرى تزيدها وجاهة وقوة.
أول هذه العوامل يتعلق بالسياق الإقليمي الذي اكتنف تاريخيا نشأة وتطور ما يمكن أن نسميه "حضارة القوافل"، والحالة الصعبة التي توجد فيها الحواضر الموريتانية، التي كانت تقع على طريق القوافل عبر الصحراء بين غرب إفريقيا وشمالها وصولا إلى حوض المتوسط وما خلفه.
أما العامل الآخر، فهو أن فكرة المهرجان، الذي ينظم سنويا في إحدى الحواضر التاريخية الموريتانية، تحت مسميات مختلفة منذ سنوات، يحتاج إلى مراجعة وتطوير والبحث عن صيغ أكثر إبداعا وعمقا وتجديدا، حتى لا يتحول إلى مجرد موعد سنوي من عدة أيام، تستعرض فيه بعض أوجه الحياة في مدن القوافل - بطريقة لا تخلو من فلكلورية ورتابة - ثم تلف وتعاد مجددا إلى غياهب النسيان طيلة أيام السنة في انتظار موعد جديد!!
وحتى يكون الرجل واضحا، أعطى المثال بالمبادرة الصينية لإحياء طريق الحرير، وهي مبادرة لافتة وقوية، تسعى إلى بناء سوق كبيرة موحدة عبر تعزيز التفاهم وتشجيع التبادل الثقافي في فضاءات جغرافية وحضارية واسعة، مع فتح الباب لتدفق الاستثمارات وتحفيز المواهب والابتكارات، ومنح الأولوية للاستثمار في البنية التحتية والطرق السيارة والسكك الحديدية والطاقة والتعليم وتوطين التكنولوجيا.
وهذه مبادرة رغم أهدافها المتشعبة، وذات الآفاق الكبيرة، فلا شك أنه يمكن الاستئناس بها، رغم اختلاف سياقها التاريخي والجغرافي وحتى السياسي عن الحالة التي تحيط بحواضر القوافل في منطقة الساحل والصحراء، وفي بعض حواف حوض المتوسط الجنوبية.
إن هذه الحواضر التي عاشت ماضيا حيويا، تعيش اليوم للأسف حالة أشبه ما تكون بـ"التحنيط"، حتى يبدو وكأننا نحرص على أن تبقى هذه المدن - وهي بالأساس محطات على طرق القوافل القديمة - تحتضر ببطء، كما هو حالها منذ قرون، منذ تراجعت أهمية التجارة الصحراوية، واختفت أو تكاد مسالك القوافل، وما يرتبط بها من حياة كاملة.
إن هذه المدن استطاعت أن تبقى حية، رغم المحيط القاحل من حولها، والهجرة وتركها تواجه بمفردها العزلة والفقر والتهميش، وهذا في حد ذاته أمر بالغ الأهمية.
إن أغلب مدن العالم القديمة، التي عبرت بنجاح نحو الحاضر، لم تحقق ذلك فقط بالمحافظة على قسمات الماضي، ولكن أيضا باستيعاب بعض دماء الحاضر، أو لنقل اكتساب بعض روح العصر، حتى يكتب لها أن تواصل الحياة.
وحتى لا نذهب بعيدا، فكل المدن القديمة في المغرب والجزائر وتونس القريبة منا، لم تستطع العبور من الماضي، إلا بالأخذ بأسباب الحياة في الحاضر، وهي اليوم بدرجات متفاوتة، تعيش بحيوية في هذا الحاضر، كما تحافظ بوعي على الماضي، الذي هو مبرر وجودها الأبرز.
إن هذه المدن حتى يكتب لها أن تخرج من مرحلة الاحتضار، لا بد أن تزود بأسباب الحياة، لا بد أن تحقن بمصل التجدد، عبر تنميتها وصيانة معالمها وفك العزلة عنها، وجعلها جاذبة لأبنائها أولا، وكذلك للسياح وللمستثمرين.
إن حضارة الصحراء التي تمثلها مدن شنقيطي وولاتة ووادان وتيشيت ومعها بعض المدن الأحدث مثل تجكجة وأطار وأوجفت ومدن أخرى، لكي تستمر في الحياة، لا بد من جعلها حاضرة في حياة البلد، منحها الفرصة لتتفاعل بحيوية ونشاط مع مثيلاتها في المنطقة.
إن المكتبات الزاخرة بالمخطوطات والتقاليد المعرفية والتعليمية العريقة، وأنماط العيش الرائعة التي ذلل بفضلها سكان هذه المدن الطبيعة القاسية، لا تعني شيئا، إذا لم يكتب لها أن تقدم للعالم، وتحظى بما يليق بها من تثمين وتطوير.
كم من زمن مر منذ بدأت جهود تعريف العالم بهذه المدن؟!!
لقد مرت عقود طويلة على بداية هذه الجهود، لكن شيئا لم يتغير نحو الأفضل في حياة الناس، وفي تزويد هذه الحواضر التاريخية بأسباب الحياة.
ما زالت الصورة هي ذاتها، مسن رسمت الأيام قسمات وجهه المرهقة، يتوسط بيتا خربا، وحوله تتكوم مئات أو آلاف المخطوطات النادرة، لو أتيح لها أن تتكلم، أو تعبر عن نفسها لصرخت في وجوهنا، كفى اهمالا وتسويفا!!
إن ما حدث مع هذه المدن المختلفة، هو تكرار ذات التجارب الفاشلة، دون أي روح إبداعية، وبالتالي استمر الإهمال والتسويف على حساب روح حضارة الصحراء وحواضرها الآخذة في الاحتضار منذ قرون.
إن هذه المدن، أو الحواضر أو "القصور" - كما كانت تسمى - ما زالت كما كانت قبل قرون، مع فارق واحد، هو أن أبناءها هجروها، وزهدوا فيها، وفي نمط العيش فيها، وباتت مجرد متاحف بائسة، متناثرة بين الرمال، يستمتع بضع سياح - أوروبيون مسنون في الغالب - بزيارتها حين يرغبون في التعرف على حياة الصحراء قبل قرون.
والأسوأ أننا شاركنا في تأكيد هذا البعد "المتحفي"، فقد حولناها إلى مزار سنوي نتقاطر عليه أياما معدودة، في إطار ما يعرف بمهرجان المدن القديمة أو مدائن التراث، ثم لا نلبث أن نتركها تواجه مصيرها في صمت وحزن، بقية أيام العام!!
إن أي جهد يتعلق بهذه المدن التاريخية في المستقبل، ينبغي أن يسعى لجعلها تقف وحدها، عبر خلق أنشطة اقتصادية ونفعية، تجعل أفئدة من الناس تهوي إليها، وترغب في العيش فيها، وتجعلها تنفق من ريع هذه الأنشطة الاقتصادية لتوفير الخدمات الأساسية لصالح سكانها.
وبذلك تتخلص من وضعها رهينة للشفقة العمومية من قبل الدولة، واستجداء العون والصدقات التي ترسلها المنظمات الدولية والإقليمية.
وهذه المبادرة التي تحدث اليوم عنها موراتينوس بين أطلال التاريخ في وادان، يمكن لو أطلقت بوعي وتنسيق وإبداع، أن تمثل بداية العناية الحقيقية بهذه المدن، وجعلها تتفاعل مع محيطها، بما يبعث كامل "حضارة القوافل" من مرقدها، ويجعلها كما كانت في الماضي شريان حياة، وعنصر ربط بين فضاءات ثقافية وبشرية متعددة.
فهل تلتقط دبلوماسيتنا هذه الدعوة وتمنحها ما تستحق، وتنفتح على كل الهيئات الدولية والإقليمية المعنية بالثقافة والتاريخ، وفي مقدمتها المبادرة الدولية لتحالف الحضارات، التي يقودها موراتينوس شخصيا، خاصة أنه أبدى استعداده لدعم أي جهود في هذا الاتجاه؟
الكرة الآن إذا في مرمى موريتانيا، وبالتحديد وزارات الخارجية والثقافة والسياحة والشؤون الإسلامية، لإعداد خطة متكاملة، تعتمد الأبعاد الجديدة في مجال الصناعة الثقافية والإبداعية والتسويق السياحي