دقة - حياد - موضوعية

محمد المامي ولد لبات.. ذلك الوطني الذي ترجل

2016-06-26 20:29:42

قليلون هم المثقفون الذين يعرفون حكاية هذا الوطن العزيز، أو يتذكرون شيئا من سفر تكوينه، أو يعلمون متى كانت هذه الدولة ولماذا وكيف؟ بعضهم نسي فعمي، وبعض جاء لاحقا "في ذيل جندي" ومنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على أربع؛ ومبلغ علمهم أن الدولة رزق ساقه الله إليك، فخذ خيرها ولا تجعلها وطنا!

.

السيد محمد المامي ولد لبات (المامي) الذي رحل أمس إلى رحمة الله في هدوء منقطع النظير، كان من بناة نهضة هذا الوطن. فهو من  أسرة كريمة شكلت مع أسر أخرى روافع انعتاق ونهضة الوطن. لقد طوح بها في فجر الستينات، وجاء بها من البدو عاملا الجفاف وهوى التمدرس إلى "قرية" نواكشوط التي لا يكاد سكانها يومئذ يبلغون ألفي نسمة، فبنت خيمة - كغيرها من ذويها وأمثالها- في حافة تلك القرية، وسجلت طفليها محمد المامي ومحمد الحسن في مدرسة ابتدائية.. ومن هنا كانت البداية.

كانت تلك القرية حاضرة البحر عاصمة دولة ما تزال في أرحام القدر، وكانت - رغم تخلفها وانعدام وسائل العيش والاتصال فيها- تعج بالأحلام الكبرى وتجتاحها أنوار النهضة الكونية فتنفخ فيها روحا جامحة لا يعرف طموحها حدودا! إنها روح "الستينيات المجنونة" كما يسميها الأستاذ أحمد مخدر:

- 15 مايو 1964 عرف أطفال القرية مأساة فلسطين، وتظاهروا نصرة لها، فكان أبناء لبات - رغم صغر سنهم- حاضرين في تلك المظاهرة.

- يناير سنة 1966 احتدم صراع التعريب وصيانة الهوية والوحدة الوطنية، فكان أبناء لبات في خضم ذلك الصراع.

- مايو سنة 1967 أغلقت مصر عبد الناصر مضيق تيران في وجه إسرائيل فلاحت في الأفق أنواء معركة من معارك صراع الوجود المستعر بين العرب وإسرائيل، فكان أبناء وبنات لبات حاضرين في التظاهرة التي انتظمت بتلك المناسبة؛ والتي كانت أول تظاهرة تشترك فيها المرأة الموريتانية في تاريخنا الحديث.

- يونيو حزيران سنة 1967 كان حصار وجلاء السفارة الأمريكية في نواكشوط، فكان أهل لبات في مقدمة الزحف.

 - مايو / يونيو سنة 1968 اندلعت الحركة الوطنية الديمقراطية التي أنهت الاستعمار الجديد ووضعت معالم الدولة الموريتانية الحديثة، فكان أهل لبات في الطليعة: كان المامي في جبهة النقابات ومحمد الحسن في الجبهة المدرسية والشبابية وعائشة وأخت البنين وخديجة في جبهة النساء الوطنيات الديمقراطيات.

- مايو سنة 1971 كانت نواكشوط تغلي بسبب إضراب النقابات والتلاميذ واعتقالات مهرجان فاتح مايو، وكان السجن المدني يعج بالنقابيين والمثقفين والتلاميذ، فأعلنا الإضراب عن الطعام. وكنت من بين الذين أغمي عليهم بسبب الإضراب فنقلت إلى المستشفى الوطني، وما إن أفقنا في المستشفى حتى بدأنا حسب الأساليب المتبعة يومئذ نغني ونحرض المرضى والزوار لينتفضوا ضد النظام الاستعماري الجديد ومحميته "ميفرما". وإن أنس لا أنس أن أحد نزلاء المستشفى يومئذ كان محمذن ولد لبات (حمناه) أبو هذه الأسرة الذي كان يمحضنا دعمه ويشجعنا على السير قدما رغم تقدمه في السن وما يعانيه من وطأة المرض. وكذلك كانت الأم السالمة فال بنت أحمد بن زين (انها) رحمهما الله. وكم كنت أسائل نفسي كلما تذكرت مواقفهما التي لا تنسى: ترى هل كان يدور في خلد هذين الشيخين البدويين النازحين من الريف إلى المدينة أن حركة أبنائهما التي محضاها تأييدهما ستنتصر يوما ما، وأن وطنهما الناشئ سيتحرر ويصبح له شأن عظيم، ويكون من بين أبنائهما وحفدتهما قادة ومثقفون ووزراء وسفراء؟

... وغلب الروم وانتصر الوطن: ألغيت المعاهدات الاستعمارية المذلة وأنشئت العملة الوطنية الأوقية (التي لا يعرف بعضهم إلا وجهها) وأممت "ميفرما" وأصبحت اللغة العربية اللغة الرسمية في البلاد بعد أن كانت مهينة، وصدر عفو عام عن مناضلي الحركة، وأغلقت السجون والمنافي، وتأسست جبهة وطنية، وصدر ميثاق وطني يضمن بعض الحريات ويلغي استغلال الإنسان للإنسان، وعقد مؤتمر الشباب وتوج بانتخاب أول مجلس وطني للشباب كافة، فكان أبناء لبات في قلب الأحداث من جديد.

واندلعت حرب الصحراء المشؤومة وما واكبها من دم ودمار ختامه استباحة الوطن وتوجيه البنادق المهزومة إلى نحور الدولة والأهل بدل حفظ الذمار وحماية البيضة. وسقط الوطن أسيرا في قبضة بوليزاريو وأسيادها؛ فتواثب الأحرار في نفير نجدته يتحدون السجون والمنافي ويقتحمون أبواب الهجرة والنضال، فكان أبناء لبات حاضرين أيضا حتى أطيح بذلك العهد البغيض في 12/12.. وبدأت مرحلة أخرى.

... ظهر الفساد في البر والبحر، وأهدر الشعب، وانهارت الوحدة الوطنية، وأهين المرابطون في الله، ورفرف العلم الصهيوني القذر على ربانا الطاهرة، فجثا الوطن.

ولكن الله سلم. ونهضت موريتانيا من كبوتها، واستعادت حريتها وعافيتها ووحدتها الوطنية، وأصبحت في أيد أمينة تحفظها من عدوها وتبنيها وترفعها إلى مصاف الأمم المتقدمة. إنها منيعة بجيشها القوي وشعبها الأبي الوفي ووجهها المشرق البهي الذي يلامس في بعض ملامحه تلك الصورة التي طالما حلمنا بها وحملناها في وجداننا منذ أزيد من نصف قرن.

فليهنأ محمد المامي ويقر عينا بذلك. وسلام على روحه الوطنية الطاهرة ورحمة الله وبركاته.

ورحم الله السلف وبارك في الخلف.

 الأستاذ محمدٌ ولد إشدو         

تابعونا على الشبكات الاجتماعية