دقة - حياد - موضوعية

تفاصيل الود وأسرارالخلافات بين موريتانيا والجزائر

2016-04-30 03:51:40

تظل موريتانيا أكثر دول المغرب العربي تناسيا في ذاكرة العلاقات السياسية بالنسبة للجزائر، لكن فيضا من العلاقات التاريخية ومحطات من النضال الوطني المشترك من أجل الدولة الوطنية، وزخما من الخلافات التي طرأت في العلاقة بين الجزائر وموريتانيا بسبب قضية الصحراء الغربية، تكشفها مذكرات الرئيس الموريتاني الراحل مختار ولد داداه الذي حكم موريتانيا من ماي 1961 إلى غاية 10 جويلية 1978، حين أطاح به انقلاب عسكري بقيادة العقيد ولد هيدالة، أبقاه رهن الاعتقال حتى إطلاق سراحه ونقله للعلاج في باريس في أكتوبر 1979.

.

تفاصيل الود وأسرار  ❊في 28 نوفمبر 1974، كان الرئيس هواري بومدين يدير غرفة عمليات عسكرية في منطقة تندوف، بعدما وضع قوات عسكرية كبيرة على أهبة الاستعداد للتدخل في موريتانيا. كان ذلك اتفاقا سريا بين الرئيس بومدين والرئيس الموريتاني مختار ولد داداه يقضي بأن يعلن ولد داداه عن تأميم مناجم الحديد والشركة التي تديرها “مفيرما” التي كانت تملكها وتستغلها فرنسا، وفي حال ردّ الفرنسيون عسكريا يكون الجيش الجزائري مستعدا للتدخل والدفاع عن موريتانيا.

تلك واحدة من قصص الكفاح الوطني المشترك بين الجزائر وموريتانيا من أجل تحرير مقدرات الاقتصاد من سلطة المستعمر الفرنسي، يسردها الرئيس ولد داداه في مذكراته.
قبل ذلك يحكي ولد داداه محاولة الرئيس بومدين إقناعه بإقامة فدرالية بين الجزائر وموريتانيا. ويقول توقفت في الجزائر لمدة 48 ساعة في طريق عودتي من تونس إلى الرباط في أوت 1974، خلال هذا اللقاء عاتبت الرئيس بومدين عن انسحابه من المفاوضات الثلاثية حول قضية الصحراء الغربية. وخلال هذه الزيارة عرض علي الرئيس بومدين إقامة فدرالية بين الجزائر وموريتانيا. كان ردي أن رفضت العرض لأسباب عديدة، إذ لم تكن الظروف الإقليمية مواتية، والوحدة الوطنية في موريتانيا كانت لا تزال هشة، باعتبار أن موريتانيا بلد ثنائي العرق، إضافة إلى أن هناك اختلافا كبيرا في الوزن بين البلدين”.

لكن السر الأكبر في تلك الزيارة يتعلق بقرار تاريخي كانت تتوجه إليه موريتانيا، إذ يكشف الرئيس ولد داداه أنه قام حينها بإطلاع الرئيس بومدين على قراره بتأميم شركة مناجم الحديد في نواديبو والزويرات، فقد كان ولد داداه يود تكرار تجربة الجزائر في تأميم المحروقات في 24 فيفري 1974، حذر بومدين ضيفه الموريتاني من ردة فعل الفرنسيين “عندما أطلعت بومدين على القرار نصحني بالتروي، فالفرنسيون باستطاعتهم اللجوء إلى أسوأ الاحتمالات عندما تُهدَّد مصالحهم، ولن تتردد فرنسا في الإطاحة بك”، ويضيف “لكنه مع ذلك طمأنني وأكد أن كل مقدرات الجزائر رهن إشارة موريتانيا”.

يؤكد الرئيس ولد داداه أنه أصر على قراره قائلا “طلبت من الرئيس بومدين أمرين اثنين، وضع قائمة بالإطارات الفنية الجزائرية التي يمكن أن تعوض سريعا الإطارات الفرنسية إن انسحبت من تشغيل المناجم، ومن الناحية العسكرية قررنا وضع وحدات عسكرية جزائرية على الحدود بين البلدين في حالة تأهب قصوى، دون أن نعلن عن سبب ذلك، وتكون هذه الفرق مستعدة للدخول إلى موريتانيا عند أول إشارة منا، ويكون الرئيس بومدين نفسه في منطقة تندوف يوم 28 نوفمبر 1974 في انتظار الإشارة للقيام بأية عملية ضرورية، وفي النهاية لم يصدر أي رد فعل من فرنسا، ولم نكن في حاجة إلى تدخل الجزائر”.

بالنسبة للرئيس بومدين المعروف بمواقفه من فرنسا المستعمرة، كانت المعركة المحتملة مع المستعمر السابق على أرض موريتانيا قد تمنح الجزائريين فرصة تمريغ أنف فرنسا في رمال الصحراء بعد عقد ونصف من المرارة والانكسار اللذين لحقاها بفعل انتصار ثورة أول نوفمبر، كما كانت فرصة مواتية للجزائريين لمزيد من الانتقام من فرنسا التي كانت قد تركت آلاما عميقة في الجزائر، ورفات الشهداء لم يتم الانتهاء من جمعها بعد، إضافة إلى هذا، لا أحد كان يمكن أن يتوقع ما تؤول إليه المواجهة العسكرية لو تمت، لكن الواضح أنه، إضافة إلى الموقف التاريخي والعميق للجزائر إزاء التحرر من ربقة الاستعمار على أي صعيد كان، فإن استعداد بومدين للدخول في قتال محتمل مع القوات الفرنسية إعلان بسرعة التحولات التي حدثت في الجزائر بعد 14 سنة من الاستقلال، فيما يتعلق ببناء جيش قادر ليس على الدفاع على الجزائر فحسب، ولكن على التدخل خارج الجزائر أيضا.

صك “الأوقية “ في الجزائر.. الموقف المشرف
كانت موريتانيا ولا تزال أكثر دول المغرب العربي هشاشة في بنيتها التحتية، وبذل الرئيس ولد داداه الكثير من الجهد لتحصيل دعم من الدول الشقيقة لصالح إنشاء بنية تحتية في بلده، وكانت الجزائر من أكثر الدول التي يأتي الرئيس ولد داداه على ذكرها في دفاتره في مجال دعم موريتانيا في الستينات والسبعينات، ويكشف أنه أبلغ الرئيس بومدين برغبة موريتانيا في بناء ميناء في المياه العميقة في نواقشوط، فرد هواري بومدين أن الجزائر مستعدة للمساعدة، وطلب من ولد داداه إبلاغه بقيمة الدراسة والإنجاز التي بلغت 250 مليون فرنك. يذكر ولد داداه أن الرئيس بومدين طلب منه أن يتصل وزيره للمالية بالوزير الجزائري للمالية حينها ليحدد إجراءات تحويل المبلغ، مشيرا إلى أن “الصين قررت لاحقا أن تأخذ المشروع على عاتقها بمجمله.. أخبرت السيد بومدين بذلك، فطلب مني التصرف بالمبلغ ليبقى هناك هبةً وشاهدا على التضامن بين الشعبين الجزائري والموريتاني، وكان مستشفى آلاك أهم إنجازات تلك الهبة”.
لم يتوقف دعم الرئيس بومدين لموريتانيا في هذا الجانب فقط، لكن الرئيس ولد داداه يعترف في مذكراته قائلا “للأمانة التاريخية فإن الرئيس بومدين قام بالكثير من الجهود ليتم انتساب موريتانيا إلى الجامعة العربية، إذ كانت الطريقة المتبعة في الانتساب أن يتم قبول البلد العربي في اجتماع لمجلس وزراء الخارجية، لكن الرئيس بومدين أصر على أن يكون انتساب موريتانيا في قمة رؤساء الدول العربية التي انعقدت في الجزائر عام 1973”.

ويضيف في جانب آخر أن الجزائر كانت تستقبل أكبر جالية طلابية موريتانية، وكانت تمنح للطلبة الموريتانيين منحا، خاصة في مجال الطب والقضاء وتكوين الإطارات المؤسِّسة للدولة والإدارة الموريتانية. ويشير الرئيس ولد داداه في مذكراته إلى أن أكبر مساعدة قدمتها الجزائر إلى موريتانيا هي صك العملة الوطنية “الأوقية”، ويذكر “ما كان لإنشاء البنك المركزي الموريتاني وإنشاء العملة الوطنية أن يتما لولا المساعدة النفيسة للجزائر”، ويضيف “عندما قررنا صك عملة وطنية اختارت الحكومة 5 إطارات عُليا في ميدان الاقتصاد وتم إرسالهم إلى الجزائر، وكان على هؤلاء الشباب أن ينجزوا المهمة في سرية تامة، فلو علمت السلطات المالية الفرنسية أو البنك المركزي لدول غرب إفريقيا لوضعت أمامنا الكثير من العراقيل”. وتابع “أثبتت السلطات الجزائرية كثيرا من التضامن، وقد تفانى الخبراء الجزائريون في إنجاح العملية، ابتداءً بإعداد الكوادر الموريتانية وانتهاءً بطبع العملة الأوقية”.

ولافت أن العلاقة الشخصية بين الرئيس بومدين وولد داداه كانت حاسمة في الحماس الكبير للتعاون البيني، ويذكر ولد داداه أنه “في عام 1970، جاءني وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وقال لي: إنكم الصديق الوحيد الذي يناقش معه الرئيس بومدين كل المواضيع، لأن ثقته فيكم كبيرة، ولذلك أسمح لنفسي أن أطلب منكم أن تنصحوا الرئيس بومدين بمزيد من العناية بالسياسة الخارجية والإفريقية على وجه الخصوص، وأرجو أن تنصحوه بالسفر إلى الخارج للتعرف على تجارب دول أخرى”. ويؤكد الرئيس ولد داداه أنه فعل ما طلب منه بوتفليقة بحكم صداقته مع بومدين الذي كان أظهر تعاطفا وتضامنا كبيربين مع موريتانيا كدولة ناشئة كان يسعى لضمها إلى محور سياسي في مقابل محور المغرب.

ويلخص الرئيس ولد داداه في مذكراته “لقد أظهر بومدين كثيرا من الاستعداد والرغبة في مساعدتنا في مرحلة حاسمة من نضالنا، بروح نضالية وبتجرد ملحوظ، ما ترك أثرا عميقا في نفسي، وأعتبر أن له وللجزائر دينا كبيرا علي وعلى بلادي، بالرغم من أذاه الشديد بعد لقاء بشار في 10 نوفمبر 1975”.

لقاء بشار.. القطيعة والتهديد
يعتبر ولد داداه أن لقاء بشار الذي جمعه بالرئيس بومدين في 10 نوفمبر 1975 كان لقاء القطيعة بين الرجلين، وسبق ذلك مؤشرات ومحطات من الخلاف، كانت قضية الصحراء الغربية والمغرب العامل الأبرز فيها. ففي مارس 1975، كان ولد داداه يزور الجزائر بطلب من الرئيس بومدين لمناقشة الوضع في المنطقة، خلال هذا اللقاء عاتب بومدين نظيره الموريتاني على الاستمرار في المشاركة في المفاوضات بشأن الصحراء الغربية، والتي كانت الجزائر قد انسحبت منها، وحذر بومدين ولد داداه من الخداع المغربي.

ويشير ولد داداه إلى مؤشرات القطيعة السياسية بينه وبين بومدين “في صيف 1975 وقعت 3 تصرفات فهمت من خلالها أن الموقف الجزائري تغير من بلادنا بصفة جذرية، في اجتماع وزراء الخارجية الأفارقة في كمبالا، فاجأ رئيس الوفد الجزائري بهجوم علني وعنيف ضد موريتانيا، اتهمها فيها بالتنكر لموقفها من الصحراء. وخلال مؤتمر القمة الإفريقية المنعقد بين 8 إلى 10 أوت 1975، سلك بومدين تجاهي سلوكا منافيا للعادة، فلم يحجم عن طلب مقابلتي فقط، بل تفادى لقائي في الأروقة، ورغم ذلك كلفتُ مديرَ التشريفات بالاتصال بنظيره الجزائري لإبلاغ الرئيس بومدين رغبتي في لقائه، رد عليه أنه سيتصل به ويعطيه جوابا، لكنه لم يفعل”. ويضيف الرئيس ولد داداه أن الحادث الثالث كان يتعلق بمؤتمر حزب الشعب الموريتاني، حيث تغيب وفد جبهة التحرير الوطني عن المؤتمر.

كانت الخلافات بين بومدين وولد داداه بسبب قضية الصحراء الغربية تتوسع. وفي بداية نوفمبر 1975، أوفد الرئيس هواري بومدين المدير العام للأمن الوطني حينها أحمد دراية إلى الرئيس ولد داداه لإبلاغه رسالة شفوية مهمة، كانت الرسالة تتضمن أن الرئيس بومدين لاحظ أن العلاقات الجزائرية الموريتانية تمر منذ شهور بفتور كبير لا يُرضي بومدين، لذلك طلب لقاءً مستعجلا مع الرئيس ولد داداه الذي قبل إجراء اللقاء واقترح أن تكون مدينة بشار محطة اللقاء في 10 نوفمبر من نفس السنة، أي قبل 4 أيام من توقيع موريتانيا والمغرب وإسبانيا على اتفاق تقسيم الصحراء بين الرباط ونواقشوط الذي وقع في مدريد في 14 نوفمبر 1975، يقول الرئيس ولد داداه “وصلت إلى مطار بشار في ذلك اليوم على متن طائرة خاصة كان الرئيس بومدين قد بعث بها إلي، وجدته في انتظاري في المطار، وأجريت فترتين من اللقاءات مع الرئيس بومدين”. ويضيف “بادرني الرئيس بومدين بالعتاب، وقال إن علاقاتنا لم تعد مثالية كما كانت منذ شهور، بسب أعمال الهدم التي يمارسها الملك الحسن الثاني”. ويلفت الرئيس ولد داداه أن الرئيس بومدين كان على اطلاع ومتابعة دقيقة لمجريات مفاوضات مدريد ومآلاتها، وربما بالموقف الموريتاني أيضا، حيث فاجأ مضيفه قائلا “يبدو أن موريتانيا ستوقع اتفاقا في مدريد يتم بمقتضاه تقسيم الصحراء بينكم وبين المغرب، ومعنى ذلك أن موريتانيا غيّرت موقفها كاملا، فبعد أن ناضلت من أجل حق تقرير المصير للشعب الصحراوي، ترضى اليوم باقتسامه مع المغرب كما يقتسم قطيع الغنم والإبل، إن الجزائر لن ترضى بذلك أبدا”. وضع الرئيس بومدين الرئيس ولد داداه في موقف محرج، ما دفعه إلى محاولة تبرير الموقف الموريتاني بصعوبة إجراء استفتاء لتقرير المصير الذي لا ينبغي أن يشمل السكان غير الأصليين، وزعم الرئيس الموريتاني الراحل حينها أن سكان جنوب الصحراء الغربية أعلنوا التزامهم بالاندماج مع موريتانيا، وسكان شمال الصحراء مع المغرب. كان هذا الطرح الذي أعلنه الرئيس ولد داداه محاولة منه لتبرير الموقف الموريتاني، لكن الرئيس بومدين، بحسب ما جاء في المذكرات، طلب من الرئيس ولد داداه سحب موريتانيا من مفاوضات مدريد “أطلب منك أن تسحب بلادك من هذه المفاوضات وألا توقع على الاتفاقية التي يجري الإعداد لها، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة بالنسبة لبلادك وبالنسبة لك شخصيا”، كانت تلك رسالة تهديد واضحة لولد داداه من الرئيس بومدين الذي أضاف “لو خيرت بلادك بين المغرب الإقطاعي التوسعي وبين الجزائر الثورية، فإنك لن تستطيع أن تختار الأول”. ويذكر الرئيس ولد داداه أنه رد على بومدين بما يعني أن العبارات التهديدية ليست في محلها ولا تغير الموقف بالنسبة له، أما الاختيار بين البلدين فإن مصالح موريتانيا تلتقي مع المصالح المغربية وليس مع المصالح الجزائرية، كان ذلك بالنسبة لبومدين حسما واضحا للموقف وتغليبا لطرح المغرب على الطرح الجزائري بشأن قضية الصحراء الغربية، ما دفع الرئيس بومدين إلى إرسال رسالة تحذير ثانية مفادها “احذر يا مختار، موريتانيا بلد هش، ولديه مشاكل داخلية خطيرة وآلاف الكيلومترات لا يمكنها أن تحميها بنفسها في حالة حدوث نزاع مسلح، ومصلحتها في أن تبقى حيادية وتتابع لعب دورها الدبلوماسي” (في إشارة إلى عمليات وساطة سياسية قام بها سابقا الرئيس ولد داداه بين بومدين والملك الحسن الثاني)، وحاول بومدين في الوقت نفسه استدراج ضيفه الموريتاني قائلا “إذا كانت موريتانيا مازالت تخشى بحق من النزعة التوسعية المغربية، فبإمكانها أن تعول على الجزائر لمساعدتها على الدفاع على نفسها، ولا يمكن أن تسمح موريتانيا للمغرب بجرها إلى مغامرة قد تكون ضحيتها الأولى مادامت هي الحلقة الأضعف في المنطقة”.

 
كان لقاء بشار بحسب ما يرويه الرئيس ولد داداه عاصفا وحاسما بالنسبة للرئيس بومدين فيما يتعلق بقضية الصحراء الغربية، ويؤكد نفس المصدر أنه سمع من بومدين ما يفيد بأن “الجزائر لن تقبل أبدا المخطط المكيافيلي الذي يعد له الحسن الثاني بتواطؤ من إسبانيا الفاشية، ولن تقبل أبدا أن توضع أمام الأمر الواقع، ولن تفرط أبدا في مصير الشعب الصحراوي، وإذا اقتضى الحال فستضع تحت تصرفه كل وسائلها المادية والبشرية، وإذا لم يكن ذلك كافيا فسنلجأ إلى التضامن الثوري العالمي من أجل جمع 50 و65، بل 100 ألف مقاتل من أجل الحرية، ومنع المغرب من سحق الشعب الصحراوي”.

بومدين - الحسن الثاني.. الوساطة

 قبل صفحة الخلافات السياسية العنيفة التي طرأت بين الجزائر وموريتانيا، يروي الرئيس ولد داداه في مذكراته فصلا مهما عن جهود الوساطة السياسية التي قام بها بين الرئيس بومدين والملك الحسن الثاني، لتخفيف حدة التوتر بين الجزائر والمغرب، ومنع التوتر من التحول إلى واقع حرب بين البلدين.

قبل لقاء بشار العاصف وفي شهر يونيو 1975، كان الرئيس ولد داداه على علم بحدة التوتر بين البلدين، فأوفد وزير خارجيته حمدي ولد مكناس إلى بومدين والملك الحسن الثاني لدعوتهما لضبط النفس، وقد أبلغه كل واحد منهما رغبته في لقائه، أبلغ الرئيس ولد داداه السفير الجزائري بنيته السفر إلى الجزائر للقاء الرئيس بومدين، واقترح أن يكون اللقاء خارج العاصمة الجزائرية، فتقرر أن يكون في مدينة بشار، يقول ولد داداه “عند لقائي بومدين كان شديد التوتر، ودون مقدمات بدأ يتحدث عن طرائق الملك الحسن الثاني، وقال: لقد غدوت ضحية لحملة شديدة من الصحافة المغربية، وقد نشرت هذه الأخيرة صورة كاريكاتورية سيئة عني تبرزني بالزي العسكري وتظهرني كتوسعي وإمبريالي، وأنا لن أتحمل طويلا شتائم هذه الحملة التي ينظمها بكل عناية الملك الحسن الثاني، وأنا مازلت حتى الآن أمنع الصحافة والإذاعة والتلفزة الجزائرية من الرد بالمثل، غير أنني لن أستمر في إلجامها في حال لم توقف وسائل الإعلام المغربية حملتها ضد الشعب الجزائري وضدي”.

ويؤكد ولد داداه أن الرئيس بومدين حدثه خلال هذا اللقاء للمرة الأولى عن البوليساريو، جبهة التحرير الصحراوية، وإقراره بتوجيه الجزائر دعما مباشرا لها، وقال “الوضع متفجر عند الحدود الجزائرية المغربية وعند الحدود مع الصحراء، والقوات الجزائرية في حالة استنفار على طول الحدود مع المغرب، وجبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب مستعدة بدورها للرد إذا كان الحسن الثاني حشد قواته على طول الحدود نفسها وهو يخطط لمهاجمة الجزائر واجتياح الصحراء بالتعاون مع أصدقائه الإسبان وبمعاونة الأمريكيين والفرنسيين، ولذا فإن الجيش الجزائري لن يترك الحسن الثاني يعيد ضربة أكتوبر 1963”، وأضاف “حين ذاك انتهز الضعف المؤقت للجزائر الخارجة لتوها من 7 سنوات من الحرب الضروس مع جيش الاحتلال الفرنسي، والشعب الجزائري لن ينسى ذلك العدوان، كما لن ينسى أن الحسن الثاني فرض على أبيه الرجل المحترم (يقصد الملك محمد الخامس) الضغط على الحكومة الجزائرية للتنازل على جزء من أراضيها لضمها إلى المغرب”، ويكشف الرئيس ولد داداه في مذكراته أن الرئيس بومدين أبلغه أن الملك الحسن الثاني طلب من الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال السماح للجيش المغربي بالعبور من تندوف لغزو موريتانيا التي كان المغرب يعتبرها منطقة أصيلة تابعة له، وعاند كثيرا للمطالبة بها، ودفعت الرباط عام 1960 إلى قطع علاقاتها مع تونس، احتجاجا على إعلان الرئيس الحبيب بورقيبة الاعتراف باستقلال موريتانيا.

كان الرئيس ولد داداه ينقل في الوقت نفسه رسالة من الملك الحسن الثاني إلى بومدين، مفادها أن المغرب لا يقبل أيضا أن تؤوي الجزائر حركة مسلحة معادية للمغرب، لكن الرئيس بومدين اعتبر ذلك أسطوانة مشروخة يرددها الملك الحسن الثاني، كان بومدين يعتقد أن الملك الحسن الثاني كان يحاول إبرام صفقة معه تقضي بتخلي الجزائر عن جبهة البوليساريو، في
مقابل موافقة الرباط على اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين التي كانت معلقة منذ 1972، وهي الاتفاقية التي قال الرئيس الموريتاني ولد داداه بشأنها “لو صادق الملك الحسن الثاني على اتفاق ترسيم الحدود في الرباط عام 1973 أو 1974، ما كان الرئيس الجزائري ليشجع إنشاء البوليساريو كإجراء انتقامي من المغرب”، ذلك أن الجزائر كانت تنظر بعين الشك والريبة إلى المطامع المغربية في جزء من الأراضي الجزائرية، في إشارة إلى تندوف وبشار.

عند نهاية اللقاء بين بومدين وولد داداه، أبلغ الأخير بومدين أنه سيمر على الرباط، وسأله إن كان يود أن يبلغ رسالة إلى الملك الحسن الثاني، فرد بومدين قائلا أنت تعرف أن خلافي مع الحسن الثاني لا يمكن أن يجبره أي غراء عادي، فأنا إذن لا أحملك أية رسالة إليه، وليس لدي ما أقوله، لكن عليه أن يعلم أنه إذا ظل يتحداني فسوف أرفع التحدي”، ويضيف ولد داداه “سافرت إلى الرباط ووجدت الملك هادئ البال، أخبرته أن الرئيس بومدين منزعج من حملة الصحافة المغربية ضده، وأنه غير راض على تصديق الملك على اتفاقية يونيو 1972 الخاصة بترسيم الحدود”، فرد الحسن الثاني قائلا “بومدين ينظم حركة مسلحة مناوئة لمنع المغرب من استرجاع أقاليمه الصحراوية”، وجاء في مذكرات ولد داداه ما يفيد أن الملك الحسن الثاني كان منزعجا من عدم رد الرئيس بومدين على مبعوثين خاصين أرسلهما الحسن الثاني إليه، ومن عدم إرسال الرئيس بومدين وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة الذي قال الملك إنه يعرفه حق المعرفة.. انشغال رد عليه بومدين في لقاء ثاني مع ولد داداه تم في شهر يونيو 1975 بأن وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة كان مشغولا في مباشرة الصلح بين إيران والعراق، وباتصالات مع دول الخليج والمملكة السعودية للحصول على قروض تحتاجها الجزائر، ووافق على إرساله في الشهر الموالي (جويلية 1975) إلى الرباط، وبعد الزيارة تم إصدار بيان كانت كل كلمة فيه قيد النقاش ومحل اتصالات بين بوتفليقة وبومدين قبل صدوره، وأعلنت فيه الجزائر صراحة عدم وجود أية أطماع لها في الصحراء الغربية وعزمها التعاون مع المغرب. بالنسبة للرئيس الموريتاني كان هذا البيان خطوة مهمة في أفق إذابة الجليد بين المغرب والجزائر، وبداية لمسار جديد من التوافق لم يتم حتى الآن.

في مذكرات الرئيس الموريتاني التي جاءت في أكثر من 600 صفحة ما يستحق القراءة، صفحات مهمة من تاريخ العلاقات الجزائرية الموريتانية، وفصول من ظروف وملابسات قيام الدولة الموريتانية في علاقات بواقعها المغاربي والإفريقي، والتأثيرات التي خلفتها المشكلات السياسية بين دول المغرب، واستعراض مواقف وأسرارا سياسية بين كبار المنطقة في مناخ متقلب بين الود والتوتر في السبعينات. -

 

المصدر: الخبر

تابعونا على الشبكات الاجتماعية