دقة - حياد - موضوعية

مفهوم الديمين (الحلقة الثانية)

2019-12-06 05:09:56

تلبية لرغبة بعض الأصدقاء سأقوم على هذه الصفحة بنشر مقتطفات متناثرة من كتابي "الديمين" ريثما يصل إلى الأسواق تعميما للفائدة

.

((...وإيتشگي التي اشتق استتشگي من النسبة لها عبارة صنهاجية مركبة من مقطعين هما: "ءاذ"، بمعنى: ذلك و"يگان": بمعنى الذي هو غير، ثم أدغمت ءاذ في يگان فتحولت إلى ءايتشگان بجيم فارسية (=حرف بين الشين والتاء)، ثم حورت بمفعول الصياغة الحسانية إلى إيتشگي، وربما كتبت بالجيم (=إيجگي) ومعناها الحرفي: ذلك الذي هو غير. أما أصل اشتقاقها فإيتشگي (=الغير) في الأصل إطلاق أطلقته قبيلة بيلگه (بيتشگه) اللمتونية على كل من سواها من قبائل الإمارة التي قامت بتأسيسها ترفعا عليهم وتميزا عنهم، فقد كانت بيلگه قبيلة أميرية رفيعة القدر، مسكونة بالعظمة والأنفة والاعتزاز (من اسمها اشتقت عبارة مبلوگ)، وقد أخذ أسلاف أولاد ديمان الذين ساكنوها فترة من الزمن عنها مصطلح إيتشگي ودلالته على الغير، فلما اختط أولاد ديمان لأنفسهم منهج الديمين الذي هو منهج آخر مغاير لمنهج بيلگه أصبحت بيلگه نفسها جزءا من ذلك الغير الذي هو إيتشگي بالنسبة لأولاد ديمان، فلذلك صارت عبارة استبشيگ المشتقة من بيتشگه (=بيلگه) عندهم مرادفة لاستتشگي المشتقة من إيتشگي، وصار إطلاق مستتشگي ومستبشگ لديهم بمعنى واحد، هو إظهار أن نمط سلوك أولاد ديمان على الضد من نمط سلوك بيلگه (=بيتشگه) وإيتشگي، على عادة المجتمع البيضاني في اشتقاق أسماء الأنماط السلوكية من أسماء القبائل التي تتحلى بها، كالتكنتي المشتق من كنته ويرمز إلى الكرم والتعالي عن سفاسف الأمور، والترزگي المشتق من أولاد رزگ ويرمز إلى الأنفة والنخوة، والتمغفير المشتق من المغافرة ويرمز إلى التخلق بمعالي الأمور والابتعاد عن الدنايا، والتشمشي المشتق من تشمشه ويرمز إلى سمو الطبع ودماثة الأخلاق...إلخ.
ومع الزمن تنوسي أصل اشتقاق استبشيگ واستتشگي بينما بقي مدلولهما الذي قصره أولاد ديمان على كل نمط سلوكي مخالف لنمط سلوكهم.

وهكذا جعل أولاد ديمان بهذا لأنفسهم عالما من القيم أرادوا له أن يكون خاصا بهم دون كل من سواهم، فأصبحوا يقولون: «"ألِّ خالگ ألا أولاد ديمان ولَّ إيتشگي" (=لا يوجد إلا أولاد ديمان أو إيتشگي)». وتروي أسطورتهم المتداولة عندهم: «أن أبا أولاد ديمان وأبا إيتشگي أخوان، ولد أبو أولاد ديمان: أولاد دیمان، وولد أبو إيتشگي: سائر الناس».

ومرادهم بهذه الولادة -كما هو ظاهر- ولادة سلوكية تتعلق بالطباع لا ولادة نسبية تتعلق بالأعراق، ولذلك قال ابن أسمه في التعريف بإيتشگي في كتابه "ذات ألواح ودسر": «إيتشگي مصطلح يطلقونه على كل من لا يتطبع بطباعهم()»، وقال أيضا في موضع آخر من كتابه: «إيتشگي كناية عند بني ديمان عمن لم تتهذب أخلاقه»().

ويؤكد أولاد ديمان على هذه الثنائية التي تذكر بالثنائيات المعروفة التي تطلقها بعض المجموعات لتتميز بها عن غيرها كإطلاق الرومان للبربر، والعرب للعجم، واليهود للغوييم، وهي إطلاقات تحمل كلها شحنة ترفع دافعها حب التميز والتفوق، إلا أن إطلاق أولاد ديمان لإيتشگي يتميز عن إطلاقات غيرهم بكونه إطلاقا موجها ضد أنماط سلوكية تخالف نمطهم، في حين أن إطلاقات غيرهم موجهة ضد أجناس بشرية تخالف جنسهم، فهو تعبير عن خصوصيات ثقافية لدى أولاد ديمان، حيثما وجدت وجد الديمين وحيثما فقدت وجد إيتشگي.

ولمعرفة مدى تورط الديماني في هذه الثنائية التي وضع نورد قصة رجل أولاد ديمان الذي قال له أحدهم: «تقولون إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان متديمنا؟ فقال: ذلك لا نقوله ولكننا نقول: إن من قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من إيتشگي فقد وقع في الردة».

ويترادف الديمين أحيانا مع اتگيدي الذي هو تعبير جغرافي مشتق من النسبة إلى إيگيدي عن ذات المنظومة القيمية للديمين، بالنظر إلى أن إيگيدي الذي يجمع إلى جانب أولاد ديمان عددا من قبائل تشمشه تتبنى نفس القيم هو منبع هذه المنظومة. ولهذا عرفه ابن باباه بقوله: «استدمين [=الديمين] هو منظومة أخلاقية، وفرع من فروع المنهاج السلوكي لبني ديمان تأسس عليه حلف تشمشه، وانفردت به المجموعات المنتظمة تحت شعار تشمشة إيگيدي على اختلاف أصولها السلالية()».

وقد أرجع أحمدو بمبه بن المختار بن أحمد بن الأمين الديماني() في كتابه "الصلة المبرورة على شعر ابن أحمد يوره" هذه القيم الإيگيدية إلى عوامل تتعلق بموقع إيگيدي الجغرافي وطبيعته البيئية حيث قال: «قد طبع الله سكان إيگيدي وما يحاذيه على الجزالة، والوقار، والتيقظ، ورقة الطبع، لطيب مائه، واعتدال هوائه، وانقطاعه عن الخفة الساحلية غربا، والحدة الجبلية شرقا، والحماقة الريفية جنوبا، والجلافة التلالية شمالا()». ودون أن نجنح إلى التعميم، أو نقلل من قيمة العوامل الجغرافية والبيئية، فإننا نرى أن العوامل التاريخية والثقافية في اتگيدي كان لها الدور الأبرز.

وكيفما كان الأمر فيجب أن نعترف بأن كل ساكنة منطقة إيگيدي وما حاذاها يتحلون بذات القيم التي لدى أولاد ديمان أو أغلبها، على تفاوت بينهم في ذلك، لتقاطعهم في الشيم واتحادهم في البيئة. وقد تمتد هذه القيم في بعض جوانبها لتشمل كل الگبله، فلذلك يترادف الديمين أحيانا مع استگبيل، بدرجات تتفاوت هي الأخرى. وتتميز منطقة "المحصر" (=دائرة القبيلة الأميرية أبناء أحمد بن دامان الذين يتقاسمون مع أولاد ديمان كثيرا من القيم النبيلة) التي تجاور منطقة إيگيدي وتشترك معها في نفس الحيز، بثقافة تتقاطع مع الثقافة الإيگيدية من حيث سرعة البديهة، وبلاغة التعبير، والترفع عن صغائر الأمور.
ولذلك كثيرا ما تظهر أفعال أو أقوال عن بعض الأفراد أو المجموعات التي تعيش في هذا الوسط الثقافي المتمازج -الذي تعتبر المذرذرة اليوم بمثابة عاصمة له- من غير أولاد ديمان، نجد أولاد ديمان يحتفون بها ويبالغون في استحسانها، معتبرين أنها في غاية التديمن.
فمن ذلك مثلا [كما روى الأستاذ أحمدو ولد بزيد] أن «أحمد بن عبد الله بن محمذن بن أحمد بن العاقل [الديماني] كان "گبلت لبحر" (=جنوب نهر السينغال) فلقي إبراهيم اخليل بن سيدي ميله [الأحمد بن داماني]، وكان لا يعرفه، فبالغ إبراهيم اخليل في إكرام وفادة أحمد، وقد تبين أحمد أن إبراهيم اخليل من أولاد أحمد بن دامان، دون أن يعرف إلى أي بيوتاتهم ينتمي، وكان من المصادفات أن أول من التقى به أحمد هو أحمد بن سيدي ميله والد إبراهيم اخليل فسأله عنه بعد أن أثنى على خلقه وكرمه، فرد عليه أحمد بن سيدي ميله قائلا: "آن ماني اخباري افسغار أولاد أحمد بن دامان" [=أنا لست خبيرا في شباب أبناء أحمد بن دامان]، فقال أحمد بن عبد الله: "ذاك معناها عنو إبراهيم اخليل" [=معنى ذلك أنه إبراهيم اخليل]()».

لقد استحسن أولاد ديمان وغيرهم من المعتنين بالثقافة الإيگيدية رد أحمد بن سيدي ميله هذا وتجافيه عن إضافة إبراهيم اخليل إليه أو التصريح ببنوته له، واحتفوا به احتفاء كبيرا، باعتباره من أبلغ ما يقع من الديمين، حتى صار مرجعية لكل من يقع في ذات الموقف من أهل المنطقة، كما وقع عندما «زار [والدي] الشيخ بن محنض [الديماني] المغرب للعلاج، فعلم عبد الله بن محمد المختار بن اباه [العلوي] بقدومه، فجاءه ولم يبخل عليه إكراما وإحسانا وملاطفة، ومضت أيام فذهب محمد المختار بن اباه لعيادة الشيخ، وبعد السلام، قال له الشيخ: هل تعرفون شابا يزورني هنا من أوصافه كذا وكذا؟.. فسكت محمد المختار، وبعد ساعة سأل عن قصة لقاء أحمد بن عبد الله وأحمد بن سيدي ميله؟ فقال الشيخ: "معناها عن ذ عبد الله" [=معنى ذلك أن هذا عبد الله]()».

ثم بعد ذلك بمدة «كان محمد بن امين بن حدمين الديماني في زيارة مع بعض قومه إلى مدفن آبليغ، وكان معهم ابنه الفتى شيخنا بن محمد بن امين، فسأل محمد سالم بن محمدَا الديماني محمد بن امين قائلا: من هو هذا الفتى؟ فقال له محمد بن امين مجيبا: "آن ماني اخباري افسغار أهل لخيام" [=أنا لست خبيرا في شباب أبناء الحي]()»... )).

يتواصل

 

من صفحة الكاتب والباحث الحسين ولد محنض

تابعونا على الشبكات الاجتماعية